حيدر الاسدي
مسرحية ( مانيكان) من تأليف بنيان صالح وإخراج خالد سلطان وتمثيل الدكتورة ثورة يوسف وقد عرضتها فرقة ( إبراهيم جلال المسرحية) على مسرح قاعة عتبة بن غزوان وقبل ان ادخل العرض الى ماكينة النقد لابد من ملاحظات أولية ، أولهما الإشارة إلى النقد المسرحي المريض في أدبنا حتى تلك التي جنست تحت عنوان ( دراسات أو قراءات نقدية) في نصوص مسرحية لا أجدها الا وصفا انطباعيا متحايل جره النص إلى ساحته …والأمر الأخر بلادة المقولة التي تتشبث في منهج نقدي أحادي في تحليل النص ( وكان هذا المنهج) نصا مقدسا لا يمكن اقتحامه والالتفاف حوله ،فما الضير ان كان اعتماد أكثر من منهج قرائي ( يوفر لذة جمالية ومعرفية / للمتلقي) وحتى الجمهور الواسع على مستوى العرض . وهذا ما سجلناه من ملاحظات حول العروض التي أقيمت مؤخرا في مختلف مناطق العراق تحت تجنيس ( دراما دانس) المأخوذ تسميةٍ من الرقص الجسدي او التعبيري . والذي جنسه بعضهم بعنوان ( حداثة المسرح) وما بين البانتومايم PANTOMIME…الصامت ..فما الضير ان كان التداخل يوفر اللذة الجمالية للمتلقي ..فاجتراح المنهج الخاص هو من يميز الناقد النبه في ترشيح تلك الأعمال …وبالعودة الى العرض المسرحي( مانيكان) وهو موندراما من تمثيل ( الدكتورة ثورة يوسف الأستاذة في كلية الفنون الجميلة / جامعة البصرة) وكذلك ( نهاد غانم صالح) والفرقة الإيقاعية ( وليد عذار ، أعياد كاظم، جهاد فلاح ، مقدام فرج) كنت قد قرأت النص مطبوعا تحت عنوان ( أربع مسرحيات) احدهم منيكان والذي اؤلف عام ( 1995) ولظروف ما أجلت الكتابة لتشاء الصدفة والقدر بحضور هذا العرض الذي شاء له ان يكتب بالنجاح، وثمة ملاحظة تضاف الى مسار النقد للنص المسرحي ، وهي مشاغل بعض الذين لا يمتون بصلة للمسرح عن نقد النص ( باعتباره نصا أدبيا مستقلا) بعيدا عن مكملاته التي تختم بالعرض …وفي حقيقة الأمر هي ( انا / باذخة المجاملة للنص) مهما كان مستواه لأنه يتعامل مع النص وكأنه قصيدة او قصة متناسيا المكملات الأخرى وقد هاجمهم بعض منظري ونقاد المسرح باشتراطات جمة منها ضرورة ان يكون الناقد المسرحي ملم بالفن المسرحي من بيئة النص مرورا بالعملية الإخراجية وربما الأداء حتى ، في عرض ( مانيكان) كانت اتصالية العرض تمر بمرحلتين ( ايصالية وشعرية) وثمة نص تحتي للكلمة جسد من قبل الدكتورة ثورة يوسف فالتركيز المتشكل صيرورة ( لبؤرة ) انطلاق نحو المتلقي ( الجمهور) لفتح شفرات الثيمة ، والإيقاع لدى الدكتورة ثورة مع علو النبرة وتدرج الإضاءة كشخصية هلامية داخلة بالعرض وذا فاعلية …صاعدة من الدراما في البنية …رغم قلة السينوغرافية كأنه انسحاب نحو المسرح الفقير. والعملية الإخراجية في بعض جزيئاتها ، لمسرح الصورة لرائده صلاح القصب، فهل كانت أفعال الدكتورة ثورة الفيزياوية والجسمانية حركات وحسب …؟ بل كانت أفعالها المنجزة منسابة …ملاشية بذلك لأي فعل حركي عشوائي ..حتى لا تشوش الجمالية في العرض ..كما كان فعل الأقنعة جامداً إلى دور / مانيكان ( الفزاعة) ليكون الإيقاع / الصوتي / جرس خوف يدق ليصاعد بين الفينة والأخرى من تأزم الموقف / المرأة / الدكتورة ثورة . فهذا اجتراح جمالي( يخلط العرض في تشكيلة بنيته …النص ، الإخراج ، الأداء ) فالإشباع واللذة الجمالية كانت حاضرة سواء في النسق ألمضموني او كما يود الشكلانيون من استلهام الانفعال الحياتي وترجمته إلى انفعال جمالي محض! وسأعتمد في المقتبس على النص الأصلي كما أشرت بالرغم ان الدكتورة ثورة لم تشوهه في إلقائه في اللغة العامية ..لكن لتكامل القراءة وتماميتها وجد هذا التحديث.
( حبيبي سمرني سنين طوالا على صليب انتظاره)
باعتبار ان ( المرأة ) ( واناها) تنطلق نحو ( العالم) ( المخاطب/ الرجل بمعناه التصوري)
( منيكان) ( غائب حاضر) بمعناه ألتصديقي في الحوار .لتشكل بتلك بنية خاصة تنطلق منها وفي رمته كان ترميما هائلا لحتمية الختم….منذ النص …والأكثر تجسيد الأداء .
( ففن المسرح ليس هو التمثيل ولا النص – حسب جوردان كريج وليس هو المنظر ولا الرقص ولكنه يتكون من كل هذه العناصر التي تؤلف هذه الأشياء : من الفعل الذي يعد روح التمثيل الصميمة والكلمات التي تعد جسم المسرحية والخط واللون وهما قوام المطهر في المنظر…) (1)
فالفن المسرحي لا يكتفي بالتقاط الواقع ..بل على الخيال ان يشترك لتجسيد العرض كما كان يفعل شكسبير مع متخيله الخاص …وبهذا تكون الحكاية احد عناصر الإبداع في العرض المسرحي وهو روح الدراما ولكن ( بالتجسيد وليس السرد والحوار وحسب) وهذا ما فعلته الدكتورة ( ثورة يوسف) تماما. فكانت الحركة لديها تأكيداً للحياة ( وصراعاتها المستمرة والمتصاعدة) وهي فعالية تعبيرية مباشرة ( استمرارية) باعتبارها قضية ديناميكية …
( البحر مغلق من أين تجيئني الأصوات )
( وقاتلك أبصره مستورا بالنور مفضوحا بالظلمة يلوك جراحه)
أن المشغل الرمزي والتداعي فعال …/ الفعل ألنقضي/ يفضي عن تعرية تامة ..فالمرأة لا تنتظر
الانتظار يسلبها الإرادة بل هي من تتمرد بالإفصاح عن طول انتظارها …
( اسمع أجراس نصرك تدق راسي تخرق إضلاعي ..نصرك ام خذلانك سواء؟ جبنك ام جبني ؟ حقدك كذبك تملقك ..حقدي وتفاهتي) فقد حاولت اناها الفردية ان تحقق بعدا أجماعيا / مجتمعيا تتحول من كونها حالة فردية الى وعي عمومي تنثره في الخطاب عبر الأفق رغم ضيقه وانحساره حسب تصوراتها . ( يعمد النص إلى إستراتيجية بتقديم الذات في انشطارها على نفسها وتحويلها من ذات فردية – منولوجيه الى ذات حوارية – ديالوجية تنقسم على نفسها لتقدم الصورة ونقيضها بطريقة تدعم مناخ الاختلاط والغموض من ناحية ولكنها تزيل من ناحية أخرى شبهة التناقض في مجال الرؤية ) ( 2)
إمكانية الممثلة علاقة عضوية داخلية تنمي ذلك البعد الخارجي في تكوين الصورة المرئية
فالفرق بين القاء كلمات الدور ومعايشته التي دعا لها ستانسلافسكي بون واسع .وهذا ما عملت عليه الدكتورة ثورة التي لم تنشغل ( بالمانيكان) Manneken كشخصية حاضرة …بل اتخذت مسافة بينهما ( لا اقصد المسافة على جغرافية المسرح) بل المسافة الحوارية والأدائية والحركية.
( ولكن الأمر الأساسي هو ان على الممثل حيث يعيد بدء الشخصية . ان لا ينسى واجبه باعتباره ( صاحب وجهة نظر خاصة وانه مجبر على ان يتخذ موقفا من علاقته مع الدور …) (3)
فالوضع الجسدي يوثر في تكوين الصورة بالاعتماد على أدوات الممثل ( جسد / حركة/ صوت)
وليس الفعل العضلي وحسب يقف إزاء الدور لتكوين صورته على الخشبة .فالأساليب المقتصدة للعملية الإخراجية وظفت ميكانيكية الجسد مع العرض… والإيقاع / الصوتي/ الحاضر في بنية الدراما ولكنه لم يكُ متحكم بالأداء إطلاقا..ان الأداء مع حوارية النص ..كاد ان يمزج الحضور المادي ( لدى المنتظرة) مع ذلك الغياب / المجهول/ ليسلبها تعقلها ومنطقها وواقعيتها…
( من شد ظفائري ؟ تمهل اشبكها بأصابعك احذر شعري) الخطاب من لدن المرأة إلى المخاطب
والوسيط المرسل اليه ( الجمهور ) كان عبر دلالة واضحة المعالم في الكشف عن هويته الا وهو الحاضر الغائب الحبيب ( حبيبي ..حبيبي ) ولكن ثمة كشف وإفصاح عن أنية العلاقة أو ماضويتها وجوهر الاختلاف والفراق ( هكذا لا يكون ، الحب الحقيقي ألان من طرف واحد انه وحيد الاتجاه وأحادي الحقيقة وإذ كان حق المحب على محبوبه يوجب الافتراق، فان حقيقة الحب توجب الاجتماع ، ثمة أذا فرق وجمع وفي حال الفرق ينظر المحبوب إلى ذاته ويرى اختلاف صفاته عن محبوبه …) ( 4)
لاحظت تغيرات في رؤى المخرج لم تتواجد في النص وهذا ما فعله المخرج المسرحي حاتم عودة مع نص الدكتور مجيد الجبوري ( الصدى) كما دعا الناقد الفرنسي غاستون باشلار بان النص لا يقول كل شيء وعلى المخرج ان يقول كلمته . فالاشتغال ( ألعلاماتي) حاضرا باعتبار كل عمل يحمل دلالة ( سيمائية ) تركز على مقومات العرض المسرحي ( النص ، العمل) والغاية المقصدية .لكي يعيد إنتاج الواقع . فالنص مصيوغ بكثافة جمالية ..كلله الأداء المائز ..فقد سيطرت الدكتورة ثورة على سلوكها العضوي وسيطرت على التقنية الأدائية لديها على خشبة العرض. وكان المخاطب ( الرجل / الغائب) له شبه حضور طاغي / لا مرئي / بسيوكولوجيا يسبغ الخاص ( الحالة المعاشة) عبر المتخيل البيئوي …ليفصح عن تمفصلات ( انا المرأة) التي تناغيه عن بعد ( عدم مرئية من جانب الرجل) يقابله ( حضور طاغي لدى المرأة) والدلالة الشنيعة بينهما …حضور الأخر بالاستدعاء يشكل كثافة في الأداء والعرض وربما حد التفرد
لخاصيته كون العرض يرتكز ويتوكز عليه …فهل كان الاغتراب سمة لنزوعات المرأة ..
كان تفرج ( المنيكان) الممثلة نهاد ودورها ( walk-on lady supernumerary) فهي كانت محط سد فراغ وأنظار وإفراغ شحنات لدى المخاطبة ( الملتاعة) حتى يردهما الموت / الضوء الأحمر وفاعليته في علم النفس/ عبر إعادة بناء المنظر ( reconstruction) .
( اسمعي وصايا العالم وصلاته القائمة: اقتلوا بعضكم بعضا يبارككم رب المذابح )
إضفاء السوداوية عبر التداعي والاستنكار الحوار يصاعد من الدراما ..لنقد بنية منظومة مهشمة وبالية بذات الوقت.( بلهاء أهذا وقت للموت؟ ) إلى ان تغدوان جسدا واحدا …فهذه لم تكن الذروة وحسب بل حل للعقدة …( الأهمية الجديدة التي يتمتع بها الحوار- المحاجة داخل المأساة ، هذا الحوار الذي يجسد بصورة مباشرة جدا فكرة انتصار العقل على الغواية) (5)
جمالية الحوار ( مع المستدعى / مع إنكارية العنوان / منيكان – نكره) واللغة الشعرية العالية … إضافة جمالية وغائية وظفت بطريقة سليمة لتعبر إلى أذهان المتلقي .والعمل بطبيعته كان يعالج معاناة المرأة
( الخياطة في العرض أكيدا) التي هجرها حبيبها / زوجها/ ورحل خارج البلاد فلم تجد أمامها غير تمثال خشبي – منيكان- للبوح بأسرارها ومشاعرها وخيبة أملها إلى أن تموت في ختام العرض . ولعل العنونة النكرة حققت مرتبة وحدانية عالية بدرجة مقصديه فهل تحققت نبوة شكسبير في النص بقوله عن المرأة بأنها (كوكب يستنير به الرجل، ومن غيرها يبيت الرجل في الظلام) أم ماذا ؟ . يذكر ان المانيكان كمسمى مقتبس عنوانا ظهرت لاول مرة عام 1860 وتطورت على يد المهندس البلجيكي ( ستوكعن) سنة 1869 عندما اضاف اليها وجه وشعر طبيعي ليثير بذلك دهشة واعجاب الناس.
****************
(1) في بنية العرض المسرحي ( د.عقيل المهدي )
(2) مجلة الأقلام ( عدد 11- 12) (د.صبري حافظ)
(3) في بنية العرض المسرحي ( د.عقيل المهدي )
(4) الحب والفناء – (علي حرب)
(5) نظرية الأدب ( م .س. كوركينيان)